الفنان التشكيلي التركماني شريف محرّم... الوصول إلى قمة التاريخ والأسطورة
بقلم الدكتور مختار فاتح بي ديلي
باحث في الشأن التركي وأوراسيا
الفنان الراحل ( شريف محرّم ) حالة فنية إبداعية متنامية في مضمار الذائقة البصرية السورية … كان يبحث عن كل جديد في لوحته الاستثنائية التي كان يدهشنا بها في كل تجاربه الفنية المتعددة … الفن التشكيلي كان هاجسه الأساسي في حياته التي عاشها متمردا في مساراته الحياتية والفنية ضمن مفاهيمه التشكيلية ورؤيته الجمالية والفكرية …
وُلِد الفنان التشكيلي التركماني السوري شريف محرم على ضفاف نهر "الساجور "، في قرية #عرب_عزّة التابعة لمدينة #حلب في #سورية عام 19/6/1954م، انتسب إلى مركز الفنون التشكيلية بحلب وتخرج منه عام /1968/ ، عمل في الصحافة العربية ، أقام معرضه الأول في بيروت عام /1972/ ، ومعرضه الثاني في القاهرة والإسكندرية عام /1973/، ومعرضه الثالث في حلب عام /1974/ ، ثم انتسب إلى كلية الفنون الجميلة بدمشق وتخرج منها في عام /1981/ بدرجة امتياز شرف ، شارك في أكثر معارض الدولة الرسمية واتحاد الفنانين التشكيلين ، وأقام عددا من المعارض الفردية المتميزة على صعيد ثقافة الفن ، وقد نال على بعض أعماله عدة جوائز ، وكان متفرغا لإنتاج العمل الفني ويكتسب منه ، ويكتب أحيانا في النقد الفني في بعض الصحف المحلية … كان أخر معارضه الفردية قيل رحيله بشهر في حلب …
منذ مغادرته لمحترفات كلية الفنون الجميلة بدمشق، اشتغل الفنان محرم على أكثر من أسلوب واتجاه فني، ظلت العمارة الشطرنجيّة العنصر الأساس في لوحته. قدمها تارة مرتبطة بالإنسان (المرأة بشكل خاص) وتارة أخرى بدونه، وكان حراكه التشكيلي يترافق وحراك إعلامي يُطلق من خلاله،تفسيرات وقراءات وتأويلات متباينة مثيرة وملتبسة، حول الفن الذي ينتجه وقضايا أخرى كثيرة، جلها يتعلق بطفولته الريفيّة، المفعمة بالدهشة والاكتشاف لجماليات الطبيعة البسيطة والعميقة في آنٍ معاً، وهي ما شكّلت خزان ذاكرته البصريّة، التي استوحى منه غالبية عناصر وموضوعات لوحاته.
انتسب #شريف_محرّم إلى مركز فتحي محمّد للفنون التشكيلية بحلب، وصار يتابع كلّ ما يدور حوله من فن وفنانين وألوان ولوحات، فإذا به يتفوق على أقرانه، ما جعل مدرسيه وإدارة المركز يكرّمونه، ويأخذون لوحة له ويجعلونه يشارك في المعرض السنوي للمركز.
كان الفنان الراحل شريف محرم، يؤكد في أكثر من مناسبة، أنه نشأ في بيئة ريفيّة بسيطة للغاية، وكان يذهب إلى مدرسته حافياً وبيده أبسط الأشياء لتحقيق الدفء، وحين الانصراف، يعود إلى غرفته الطينيّة حاملاً أطياف القرية وأحزانها، لتولد في داخله ملايين الأحلام الجميلة.
وكان يقول دائما عن ولادته : "لا أنسى أنّ أمّي ولدتني في الحقل، وهي تعمل. لقد لامس الشوك والحصى والتراب جسدي، وربما خلق هذا بداخلي شيئاً من القسوة. لا أنسى مطلقاً الطفل شريف محرّم، وهو يركض في شوارع القرية حافي القدمين يتعثر بحجر ثم يقفز ويقفز حتى يستند إلى حائط ويرش على جرحه التراب حتى يتوقف الدم. وحين جئت إلى المدينة كنت حافياً، لذلك فأنا أزّين لوحتي، وأنا حافي القدمين، وقد أولول وأصرخ عندما تنتهي اللوحة".
في بيته الريفي الطيني هذا ، كانت العصافير(كما يقول) تأتي لتشاركه وجبته، لكن بعد أن كبر واطلع على أسلحة الدمار، صار يرى الفزع في عيونها ويتساءل: لماذا يتألم هذا الكائن؟ ولماذا يخفي الحزن في عينيه؟. أيقظ هذا التساؤل في نفسه قوة خفية ليدافع بها عن حقوق العصفور في الأمان، وحقوق الإنسان الذي أشاد الحياة، وبنى الحضارة على أحسن ما يرام، وصنع في الوقت نفسه، أسلحة لتدميرها، الأمر الذي أصابه بالفزع، وخلق له جملة من الهواجس والإرهاصات التي ظلت تؤرقه حتى رحيله!!.
التصقت بذاكرته إذن البيوت الطينية ذات القباب، والشوارع غير المعبدة، والأبواب الخشبية التي لا تغلق، والنوافذ التي تدخل منها الشمس والهواء مع الغبار، والتصقت به أكثر رائحة النساء بثيابهن المزركشة بألوان الحياة، وهنّ يعملن في الحقل، أو يقمن بإعداد خبز التنور الذي لم تفارق رائحته أنف الفنان، رغم تقدمه في السن. وقد قدمه الفنان فاتح المدرّس بقوله: "جاء شريف محرّم يحمل سرّه معه، وتفتّح بشكل طبيعي على اللون وإنسان هذا اللون. إنّه ابن بيته وإبداعاته أمينة لهذه البيئة، لقد منحته الطبيعة حسن التوازن الدقيق والامتداد العريق للجذور والفروع كتلك الأرض التي جاء منها".
لقد دمج الفنان محرّم في أعماله بين عوالم البنائية العقلانية والبحث عن عفوية لونية مفتوحة على العواطف والانفعالات، لما تحتويه هذه من تلقائية وارتجال. وهذا يعني تجاوز المؤشرات الواقعية في اتجاه العمق الآخر عبر التأكيد على مظاهر الألوان القاتمة التي شكلت اللون العفوي، والذي يعطي اللوحة الهاجس التعبيري لمنطلقات الصياغة اللونية. ولم يكن الفنان شريف محرّم حالة عابرة، فقد كانت لفنه نكهته الخاصة، وهاجسه الوحيد كان الإبداع والعمل والعطاء، رغم شلل يده اليسرى، والعمل بيد واحدة مفجراً طاقاته الإبداعية على سطح بياض اللوحة.
بشيء من التساؤل المبطن بأكثر من هدف، يُشير الفنان الراحل محرم إلى أن السيد المسيح عليه السلام، لم يولد في (شيكاغو) وإنما في فلسطين، وأن موسى عليه السلام، تاه في صحراء سيناء وليس في صحراء (نيفادا) والرسول العربي محمد صلى الله عليه وسلم تخرج من صحراء الجزيرة العربيّة وليس من الكلية الملكيّة البريطانيّة، وكونه ينتمي إلى أقدم الحضارات البشريّة وأرقاها، فهذا يعني أن أمته صدّرت للعالم السلام، لكن العالم صدّر إليها أسلحة الدمار!!.
وبكثير من الثقة الكبيرة بالنفس والاعتزاز بالمكان الذي جاء منه، يؤكد أنه في البدء، كان يرغب بالتفوق على بعض فناني عصر النهضة، وعندما اكتشف أنه متفوق عليهم بشكلٍ طبيعي، بخصوصيته الشرقيّة التي يملكها، ترك ذلك وعاد إلى ذاته ليصنع ثقافته الخاصة، ورؤيته النابعة من صدقه مع نفسه، وبدأ بوضع أبجدية خاصة به تميزه عن غيره من الفنانين. ويجزم الفنان محرم أنه لا ينتمي إلى أية مدرسة فنيّة، وإنما ينتمي إلى شريف محرم، ويبحث عن خصوصيته في لوحة محليّة تنتمي للأرض التي نشأ فوقها، وتشرب من حضارتها وقيمها، وتتلون بألوانها.
حول وسائل التعبير في لوحته، يؤكد أنه لا يعرف ماذا يفعل عندما يواجه مساحة اللوحة البيضاء، لكنه يشعر أنه يتنفس لوناً مميزاً، وموسيقى روحيّة خاصة، وفوق هذه المساحة البيضاء، يمارس حرية التعبير عن الروح، وهو لا يوظف الألوان في لوحته، وإنما يحس حين يعمل بأنها توظف ذاتها تلقائياً، وهذا الشيء آتٍ من خلال التآلف الروحي بينه وبين اللون.
على هذا الأساس، فإن خصوصيته كفنان، تشمل حياته المطلقة بكل أشكالها وألوانها وتفاصيلها الصغيرة، فهو شرقي رضع من حليب الشمس، وما زال مختبئاً منذ طفولته، وحتى الآن، في رداء الفلاحات، يسرق منهن الزخارف ورائحة (العيصلان) ومرارة (العوسج) ولا زال يُلوّن لوحاته، على طيب (الحبق) و(المنتور) ويستوحي معظمها من أغاني فيروز وصوتها الذي رافقه صباحاً إلى المدرسة، متسرباً من شقوق الأبواب، حاملاً له الدفء والصور الحيّة التي تختزنها كلمات أغانيها التي رسمت لوحات جميلة وساحرة يعجز عنها الفنان.
تملكت الفنان الراحل شريف محرم، حالة خاصة من الشعور العالي بالتفوق، لم تتواكب وإنتاجه الفني، إنما ظلت في حدود التصريحات التي كان يُطلقها بين الحين والآخر، في جلساته، أو لوسائل الإعلام. من ذلك قوله أنه لم يتأثر بأي فنان، بل أثّر هو بالكثير من الفنانين، وله مدرسته الخاصة، وأنه حين يرسم، يختلي أمام قاضٍ قاسي الملامح، يحاكمه على كل لمسة ريشة، وهو يرافقه في كل لحظة، ولا يمكن أن يتركه أو يتخلى عنه، لأنه هو الذي يُميزه حتى أمام نفسه!!.
غادرت أسرة شريف محرّم القرية، وسكنت الحي الشعبي "#الهلك" في حلب، يضم قوميات متعدّدة، من #عرب و #أرمن و #أكراد و #تركمان وغيرهم. وهناك بدأ يخربش بألوانه على دفاتر المدرسة، وفي كلّ مكان. إثر ذلك انتبهت إليه أمّه ومعلمة الصف، فكانتا توجهانه إلى الطريق الصحيح كي لا يبعثر ألوانه في كلّ مكان.
بدأ شريف محرّم بالكتابة على اللوحات بشيء من الأشعار ومن الكتاب المقدس، بينه وبين الأصدقاء وبينه وبين اللون والنافذة، وكأنه يقول صباح الخير ومساء الخير لكلّ الألوان، لكلّ الشرفات المطلّة على زمنه، لكنه يعود ليقول: "ليس المهم أن نتفرج على اللوحات، المهم أن نعمل.
نحن نعيش في محراب حزن واحتراق". إنّ الماضي يتجذر في أعماله، فلا يستطيع أن يعيش بدونه ويجب أن يحافظ على هذا المحراب نظيفاً بعيداً عن تلوث المدينة، وربمّا تكون صلاته في اللوحة هي احتراق كامل. إنه يشبه الفحم الذي تتراكم عليه الصخور والتراب، مع عوامل أخرى، لها علاقة بالزمن يتحول إلى ذرّة نادرة في الطبيعة، هي الماس.
إنّ أي احتراق في الطبيعة، يتحول إلى جوهر، كان يقول شريف: "أنا قطعة فحم تتحول أمام قسوة الطبيعة، إلى ذرّة قاسية وجميلة ونادرة، لتصير ذرّة ماس مرمية في التراب. أشبّه العمل في لوحاتي بحياكة الإبرة، وفيه الطهارة، فيه الصبر، وفيه الحكمة، فإذا وصلت إلى ما أريد، فإنني أصل إلى الطهارة، طهارة النفس، وهذا كلّ ما أريده".
الحديث عن تجربة الفنان الراحل ( شريف محرّم ) يعتبر في حد ذاته حديثا عن فنان مشاغب في الفن والحياة على حد سواء ، ربما لأنه باحث جدي فيهما ، ويعمل بحيوية رغم الصعوبات والمثبطات المتنامية في مجتمع مازال يحبوا للصعود نحو الشمس ، وهو دائم البحث عن كل جديد في التراث العربي وأصالته الشرقية ، ويحاول التجديد في أساليبه الفنية وتقنياته الجديدة ، لإيجاد الفن العربي الخالص من شوائب مدارس الغرب الفنية ومزالقها بين العولمة والديمقراطية البراقة ، وهو في تجاربه المتعددة لا يهمه الشكل كثيرا …
وللفنان محرم رأي لافت في المرأة. فهو يراهاً وطناً هاماً في حياة أي مبدع، وميناءً ينطلق من خلاله نحو عوالم خصبة. ويؤكد أن الفنان إن لم يجد المرأة في واقعه أوجدها في حياله، ذلك لأن رحم الفنان يكمن في ذاكرته، وهو يخلق في لوحاته نساء عجيبات أسطوريات، قد يلتقيهن في الواقع صدفة، ولكن حين يلمسنه يذبن كالثلج.
ويرى أنه لا يوجد امرأة تعرف كيف تتعامل بأمومة ولطف مع المبدع، لأنها لا تُدرك بأن الفنان عالم مليء بأطفال لم يولدوا بعد، وحين تدخل المرأة في حضرة الفنان وعوالمه، سرعان ما يستيقظ في داخلها رجل شرقي يحاول أن يمارس دوره بشكل استبدادي وإمبراطوري، وهو ما يدفع الفنان لأن يتمسك بوحدته وانعزاليته، ويبتعد عن المرأة ـ الواقع، لكي يرسم المرأة ـ الحلم بشكل أجمل وأرقى وأكثر شهيةً!!.
بقدر ما يهمه المضمون الفكري في اللوحة ، ولهذا تتكون لوحته من المضمون الذي يبدأ يفرض عليه التقنية واللون والشكل الجديد في العمل الفني ، كي يحدد رؤيته في الحياة والفن ، وأهم عناصره في لوحاته بشكل خاص المرأة الريفية الشرقية الفتية والممتلئة بالقوة والعطاء والحب ، الغنية بمفاتن الجمال الشرقي الواضح التي تؤثر به سمشنا الشرقية ، رسمها في مجمل لوحاته ليدافع عن أنوثتها في سجون الرجولة ، وعلقها على صدورنا المكتومة بالكبت الشديد والتقاليد السائدة ، وعلمنا منها حب الأرض الطاهرة والوطن الغالي ، وحاول أن يصونها من طغيان ظروف الحياة القاسية ( مفاهيم الرجولة ) ، جعلها دافئة بين أيدينا الخشنة ، تعامل معها بكل حب الرغبة في الوفاء ، وشغف العاشق في العطاء ، وحاول انتشالها من واقعها المظلم ومن أيدي الجاثمين على صدرها الطري …
بدأ الفنان التركماني السوري ( شريف محرّم ) أسلوبه الفني واقعيا صارما يرسم عناصر لوحته بأدق التفاصيل وأصغرها حجما ، ثم ألحقها بالتعبيرية مضيفا إليها في بعض الأوقات عناصره الرمزية ، وفي مرحلة جديدة من مراحل تجاربه الفنية ، مزجاهما بالتأثيرية التي تنم عن عمل فنان متمكن من أدواته القوية ومفاهيمه الفنية الواسعة في مضمار الثقافة الفنية الحديثة ، فكانت أعماله غنية باللون والشكل والمضمون بحيث يدهش المتلقي العادي أكثر منا ، نحن الفنانون … !!
و بما يقدمه في تجاربه الفنية المتجددة دائما ، وبالقدرة على التحرك ضمن إطار اللوحة البيضاء الصافية … حتى أنه لا يترك فيها زاوية صغيرة خالية من لون أو شكل أو ضربة ريشة لها معنى محدد من خلال رؤيته الفنية والفكرية إلا ويملأها بنماذج من عناصر تراثية لها أثرها علينا ( خلاخيل وحلي وأساور وجرار وقلادات وأبواب ونوافذ وبيوت متناثرة … ) هذه النماذج المتنوعة تطفي على العمل الفني ككل مسحة جمالية وفكرية خاصة بتجربته الفنية في التشكيل السوري ، ويتعامل معها بهاجسه المرهف الرقيق ضمن توليفة من الألوان الساطعة التي تعكس ضياء الشمس الشرقية التي لا تغرب عن أرضنا الطيبة والتي عاش عليها في طفولته يلعب مع أطفال قريته القابعة في دوامة الحياة الواسعة …
لم يركن الفنان المشاغب الراحل ( شريف محرّم ) في زنزانة الجمود الفني ، والزاوية المظلمة في الحياة كما يفعل غيره من الفنانين الذين اكتفوا بركونهم في برجهم العاجي يتغنون بالأمجاد السالفة ، بل كان يحاول دائما الانطلاق والتحليق في سماء الحرية الفنية للبحث عن أساليب فنية جديدة تؤدي بصدق ووفاء لرؤيته الفكرية الجديدة في الفن والحياة …
يقول الفنان عن تجربته ( أكتب شعرا بإيقاع اللوحة وخطوطها المتداخلة ، واعزف موسيقا الروح من ألوانها التي تناغم أشعار الدم ، عندها أحس بأن لوحتي تتحول لقصيدة ملحمية مسموعة بالعين ، وأنا مجموعة مراحل ولست لوحة واحدة ، وكل مراحلي تتسم بالبحث والتجريب والمغامرة … )
لهذا كانت تجاربه الفنية كمغامرة عجيبة في كهف الحياة والفن بحيث تثير الدهشة والاستغراب من تحركه السريع في الانتقال الدائم بين العناصر الكثيرة التي يوزعها على سطح لوحته بإتقان الصانع الماهر ، ويملئها بالعناصر التراثية ( حلي قروية خلاخيل أبواب مشرعة نوافذ يتخللها الهواء الشرقي وبيوت صغيرة متواضعة متناثرة على الأرض الواسعة وقرويات جميلة يبحثون عن البقع الضوئية … ) ويضيف الألوان القزحية التي يوزعها بمهارة فائقة حول تلك المرأة الريفية بأشكالها المتنوعة والذي ما يزال يرسمها بحب وصدق ، وشغف العاشق ، كأنه يخرجها من قمقم العفريت الذي احتبسها فترة زمنية طويلة …
إن العلاقة الديناميكية الكائنة ما بين العناصر التراثية المتنوعة في لوحاته وبين العنصر الإنساني هو ما يؤكده على مقدار ارتباطه الوثيق بالبيئة المحلية ، ويذكرنا بسحرها وجاذبيتها وجمالها الحي في حياتنا اليومية …
وفي مرحلة لاحقة أضاف إلى لوحاته بعض الحروف العربية وأشعارها المعروفة والتي اعتمد عليها في الحوار الكائن ما بين المتلقي ومضمون اللوحة الداخلي ، رغم محافظته على شكل الحرف التقليدي وقواعده الذي برع في ممارسة كتابتها بقواعده التقليدية يوم كان يعمل مخرجا في الصحافة العربية …
وفي آخر مراحل تجاربه الفنية ( معرضه في صالة الأسد بحلب للفنون ) حاول الدخول بأعماله الفنية إلى مفاهيم الفن الحديث ( التجريدية ) ليؤكد لنا فهمه الواسع للفن ومدى قدرته الفنية في الأداء بأساليب جديدة … فقدم أعمالا فنية ضمن مساحات لونية جديدة يتغنى فيها بألحان موسيقية جذّابة ، حيث يتناغم فيها مجموعاته اللونية مع الشكل في اللوحة الجميلة ضمن أسلوب تجريدي غرافيكي يتنامى اللون جماليا وتشكيليا في توليفة من ألوان قزحية ساطعة بالنور الظاهر خلف مساحاته اللونية الساحرة ، فهو ما يزال البارع في أداء العمل الفني تقنيا ولونيا ، بحيث يثير مقدارا من الدهشة لتألق انسجام العناصر اللونية الجديدة في لوحته ، و يحاول أن يبرز من خلالها مفاهيم صوفية جديدة ، وروحية موحية بين الصخب والسكينة ، والصراخ والصمت ، بين تناقضات استطاع أن ينسجها غرافيكيا بانسجام وتوافق ، يؤدي إلى الحالة الشعورية والحس المرهف بأهمية التعبير باللون عن مكامن الروح وعالمها الصوفي ، والذي كانت غايته الفكرية في تجربته الفنية الجديدة ، يثيرها ضمن تناغم التضاد في التشكيل اللوني وسط عالم غني بالحزن والفرح ، بالشقاء والسعادة ، بالتعب و الراحة … ولا ينسى أن يضيف إلى لوحته بؤرة الضوء التي يبشرنا بها بالمستقبل المشرق …
الفنان التركماني السوري الراحل ( شريف محرّم ) كان يرسم لنا بيد واحدة لأن اليد الأخرى تصلبت بعدما وقعت في براثن اليأس من كل شيء إلا القدرة على العطاء في الفن ، ولكن بقيت له اليد الأخرى التي تعطي مزيدا من مواسم الفرح والسعادة …
لم تكن الإعاقة الجسدية في اليد اليسرى ل"شريف محرم" أن تكون عائقاً في موضوع شد اللوحات، فكان كثيراً من الزملاء ما يساعدوه في ذلك، ودائماً كان"شريف محرم" دؤوباً ونشيطاً، حيث أضفى "شريف محرم" على لوحاته شيئاً ما من روحه وعبقه تختلف عن المرات السابقة ..إن التجارب الفنية للفنان الراحل ( شريف محرّم ) أصبح لها مدلولها الواسع في الثقافة الفنية ولغناها اللوني والفني والفكري ، مما يؤكد على مقدار أهميتها في منظومة المشهد التشكيلي السوري …
** يقول عنه الناقد الفني والفنان التشكيلي "محمود مكي": «التجارب الفنية للفنان الراحل "شريف محرّم" أصبح لها مدلولها الواسع في الثقافة الفنية ولغناها اللوني والفني والفكري مما يؤكد على مقدار أهميتها في منظومة المشهد التشكيلي السوري».
** يقول عنه الفنان "نبيه قطاية": «يحمل "شريف محرّم" بقايا صور من قريته وطفولته محفورة في ذاكرته كالوشم يستمد ألوانه من الطمي الفراتي والآجر المشوي والجرار المتكئة يرسم بيوتاً طينية متواضعة تنبعث الأصوات المكتومة من نوافذها وتتسرب الحكايات الضائعة من أبوابها».
ويضيف: «تعلق قلبه بريفية مليئة بالعافية ومحشوة بالأنوثة مستكينة لمصيرها فجعلها قديسة، تغنى بأقراطها وأساورها وخواتمها ومسح خده بثيابها الموشاة بخيوط الذهب خلّدها على ألواح خشبية لازالت عروق الحياة تنبض فيها، عشق الحياة بعنف وكبرياء فاحترق في أتونها وتحول إلى لوحات وصور، ذلك هو الفنان /الشريف/ وتلك هي نهاية الحب /المحرم/».
** يقول الباحث الفني "طاهر البني": «بالرغم من المنحى الواقعي الذي انتهجه .. لم يزل حبره ندياً ..نلمح في أعماله الفنية عناصر تعبيرية وتجريدية تتمثل في معالجته للموضوعات المستمدة من البيئة الريفية في شمال البلاد، حيث يضفي على المرأة الريفية إحساساً تعبيرياً مفعماً بالمشاعر الإنسانية السامية من خلال خطوط واهنة مسترسلة في صياغة الشكل وألوان متدفقة تتوضع على شكل ضربات قوية محدثة نبضاً حاراً يسري في خلايا اللوحة.
وفي أعماله الأخيرة يميل نحو التجريد الذي يستمد عناصره من بيئته أيضاً عبر تكوينات عفوية تشارك فيها بعض العبارات المكتوبة بخطوط واهنة تسهم في إعطاء اللوحة طابعاً رمزياً محلياً، بحيث لا يمكن أن نصنفه ضمن المدرسة الحروفية لأنه لا يعتمد على الكتابة بشكلها الجمالي بقدر اعتماده عليها كعنصر يسهم في إكساب اللوحة مضموناً فكرياً أو موقفاً اجتماعياً».
** يقول الفنان فاتح المدرس عن الراحل محرم في أوائل الثمانينيات: «إنه نباتٌ عجيب تفتح على حين غرة، أدهشني وأفرحني وقلت بسري أنا أمام فنانٍ يولد كشمس الشتاء».
« الفنان المرحوم "شريف محرم" واحد من الفنانين السوريين الذين تركوا بصمة في تاريخ الفن التشكيلي السوري المعاصر ، والذين قدموا أعمالاً فنية لايمكن إغفالها أو نسيانها، ويتميز أسلوبه فبالتعبيري والرمزي خصوصاً عندما يحاول أن يشير إلى التراث والمعاصرة بآن، استطاع أن يقدم معارضاً مختلفة ومتنوعة في كثير من العواصم العربية والعالمية، كذلك له أعمالاً موزعة في وزارة الثقافة في "سورية"، وقد أقام ثمانية وعشرين معرضاً فنياً تشكيلياً، ويعتبر فقدان "شريف محرم" خسارة كبيرة للفن التشكيلي السوري باعتباره رائداً فنياً في هذا المجال».
يعدُّ الفنان محرم من بين أهم الفنانين التشكيلين السوريين عامة والتركمان خاصة في فترة السبعينيات، وقد ترك أعمالاً لها بصمتها الخاصة، محملة بنصوص بصرية، وملحمة لونية عبر واقعية متحررة من القيود التقليدية. حيث اتخذت من البيئة الريفية والشعبية منهلا لموضوعاتها المتمثلة في البيوت الريفية الطينية، شريف محرم، ورغم الشغب الجميل الذي كان يُحدثه في كل مكانٍ يحل به، كما يُحدثه في منجزه البصري، كان فناناً حقيقياً حتى النهاية، وكأنه كان يشعر بقرب موعد الرحيل، ما دفعه لأن يُقدم مدنه المزدحمة بالبيوت والبشر في معرضه الأخير الذي شهدته حلب، تلويحة وداعٍ أخير لعالمٍ طالما كان جزءاً حميمياً وصاخباً منه.
توفي الفنان ( شريف محرّم ) في مدينة حلب قي /6/1/2009/ بعد ما عانى كثيرا من ظروف الحياة القاسية وخاصة بعد وفاة زوجته التي تركت له طفلا وحيدا اسمه "نور" الذي كان يحاول أن يصنع منه فناناً مثقفاً راقياً من نوع خاص. …
رحل الفنان شريف محرّم عن عمر يناهز الخامسة والأربعين، وهو لايزال يحمل يده المتخشبة، ويدور ليلاً في مدينة حلب، يراقب الساهرين في ليلها، يجلس معهم، ويودعهم على أمل اللقاء بهم، هناك.
رواد الفن التشكيلي السوري - الفن الحلبي
|